الوفاء في الحب
(( الوفاء في الحب))
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
*اعلم أن من تمام الحب للإخوان في الله ((الوفاء)) وهو الثبات على الحب ولوازمها وإدامته إلى الموت وبعده مع أولاده وأصدقائه وضده الجفاء ؛ وقطع الحب أو بعض لوازمه في أيام الحياة أو بعد الموت بالنسبة إلى أولاده وأحبته ؛ ولولا الوفاء في الحب لما كانت فيه فائدة إذ أن الحب إنما يراد للآخرة فإذا انقطع قبل الموت لضاع السعي وحبط العمل ولذلك قال رسول صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله(( ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،)) وروي أن رسول الله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم كان يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه فقيل له في ذلك فقال: (( إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان")) فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والأقارب والمتعلقين ومراعاتهم أوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه؛ فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر من فرحه بتفقد نفسه ؛ إذ لانعرف قوة المحبة والشفقة إلا بتعديها من المحبوب إلى كل من ينعلق به ؛ حتى أن من قوى حبه لأخيه تميز في قلبه ككلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب ٠ ولا ريب في أن المحبة التي تنقطع -- ولو بعد الممات-- لاتكون محبة في الله إذ المحبة في الله دائمة لا انقطاع لها ٠قال الصالحون: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة. فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه. وما تآخى اثنان في الله ، فيفَرَّقُ بينهما، إلا بذنب يرتكبه أحدهما. ومن الوفاء أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه، وإن ارتفع شأنه، وعظم جاهه والجملة : الوفاء بالمحبة تمامها٠ ومن آثار الوفاء أن يكون شديد الجزع على مفارقته ,؛ وألا يسمع بلاغات الناس عليه ؛ وأن يحب صديقه ويبغض عدوه وليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين؛ بل الوفاء المخالفة له وإرشاده إلى الحق٠
أما البعد والأنس فقد عرف أن الأنس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول والبعد خلافه ؛ والأنس والخوف والشوق كلها من آثار المحبة وكل واحد منها يرد المحب بحسب نظره؛ ومما يغلب عليه في وقته فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال وتستشعر قصوره من الاطلاع على كنه الجلال؛ انبعثت النفس وانزعجت له وهاجت إليه فسميت هذه الحالة في الانزعاج ( شوقا) وهو بالإضافة إلى أمر غائب وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف ؛ وكان نظره مقصورا على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف ؛ غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد ؛ استبشر القلب بما يلاحظه فيه ٠ فيسمى استبشاره ( أُنسًا)؛ وإن كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء فيسمى تألمه ( خوفا) وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات ،؛ فإن غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق اليه من خطر الزوال؛؛ عظم نعيمه ولذته ؛ وغلب عليه الأنس بالله ؛ ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة ؛ وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله ؛ بل كلما يعوق من الخلوة يكون أثقل الأشياء على القلب كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه فمكث دهرا لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغشيان؛ لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج من القلب عذوبة ما سواه فإن خالط الناس كان كمنفرد في جماعة؛ ومجتمع في خلوة ؛ وغريب في حضر ؛ وحاضر في سفر ؛ وشاهد في غيبة؛ وغائب في حضور ؛ ومخالط بالبدن؛ متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر ؛ قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفهم : أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله، قد رابهم بدفع الله عن حجبه حتى يؤدوها إلى نظائرهم ويزرعوها في قلوب أشباههم) هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشر وأروح اليقين واستلانوا ما استوعر (منه) المتفرقون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحهم متعلقة بالمحل الأعلى (وفي رواية: بالملأ الأعلى) أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه
إعداد السيد جعفر طاهر العميدي
تعليقات
إرسال تعليق