كنت على موعد مع أنشتاين و صانع القنبلة الذرية الأمريكية روبرت اوبينهايمر من خيالي
لكتابة قص قصيرة عن صناعة ذلك السلاح الفتاك الذي غير موازين القوى في العالم.
لكني تحولت لكتابة هذه القصة.
بعنوان
رأس المال القذر
كان عام 1997، ورياح التغيير العاتية تعصف بسيؤل. شوارع كانت تعج بالحياة والعمل الدؤوب، أصبحت مرتعًا للصمت والوجوم. ورش صغيرة، كانت بالأمس تضج بحركة العمال، أغلقت أبوابها. مصانع ضخمة، كانت محركات الاقتصاد الكوري الجنوبي، توقفت عن الدوران. كوريا الجنوبية، التي كانت تُعرف بـ "معجزة نهر هان"، بدأت تتهاوى تحت وطأة أزمة اقتصادية مدبرة.
في قلب هذا الخراب، وقفت هان مي يونغ، مديرة البنك المركزي الكوري. كانت امرأة في أواخر الأربعينات، عيناها تحملان صلابة فولاذية وروحًا وطنية متقدة. نشأت هان في عائلة فقيرة، ورأت بعينيها كيف بنى الكوريون وطنهم من لا شيء. لذا، عندما بدأ الحديث عن "المساعدة" من صندوق النقد الدولي، كانت تشعر بقلق عميق.
"هذه الشروط ستقضي على كل ما بنيناه!" صرخت هان في إحدى اجتماعات التفاوض المغلقة. كان صوتها يرتجف بالغضب، لكنه لم يفتقر إلى الثقة. "بيع شركاتنا الوطنية، تقليص الإنفاق الاجتماعي، فتح أسواقنا بالكامل... هذا ليس إنقاذًا، إنه احتلال!"
في الجانب الآخر من الطاولة، جلس مستر جونز، ممثل صندوق النقد الدولي. كان رجلاً أمريكيًا نحيلًا، وجهه خالٍ من أي تعابير، وعيناه الباردتان لا تعكسان سوى أرقامًا وخططًا اقتصادية جامدة. بجانبه، جلس الوزير كيم، وزير المالية الكوري، الذي بدا منهكًا ومحبطًا. كان الوزير كيم يؤمن بضرورة الإنقاذ بأي ثمن، حتى لو كان الثمن باهظًا.
"مدام هان، يجب أن نكون واقعيين"، قال مستر جونز بنبرة خالية من التعاطف، "الوضع حرج للغاية. هذه هي الطريقة الوحيدة لاستعادة الثقة وإنقاذ اقتصادكم."
"إنقاذ؟!" ردت هان بحدة. "انظروا حولكم! الطبقة الوسطى تُسحق، الآلاف ينتحرون يوميًا! هذه الشروط ستزيد الأمر سوءًا. كيف يمكننا أن نقبل بخطة تحوّل مواطنينا إلى مجرد عمالة رخيصة في شركات أجنبية؟"
استمرت الاجتماعات لأيام وأسابيع، كانت هان مي يونغ هي الصوت الوحيد المعارض بقوة. طردت من الاجتماعات أكثر من مرة بسبب اعتراضاتها الشديدة ورفضها التنازل عن كرامة وطنها. كانت ترى بوضوح أن هذه الأزمة لم تكن مجرد تقلبات اقتصادية عابرة، بل كانت لعبة قوة، محاولة لتمزيق النسيج الاقتصادي الكوري الجنوبي لصالح قوى خارجية.
في إحدى الليالي المتأخرة، زار الوزير كيم هان في مكتبها. كانت الغرفة تعج بأوراق وتقارير. بدا الوزير متعبًا، عيناه حمراوان من قلة النوم.
"هان، يجب أن نتوصل إلى حل"، قال الوزير بصوت خفيض. "البلاد على وشك الانهيار التام. الضغوط هائلة من كل الجهات."
"وماذا عن كرامتنا، يا وزير؟" سألت هان، عيناها تحدقان فيه. "هل سنبيع أرواحنا من أجل حفنة من الدولارات؟"
تنهد الوزير كيم، وظهرت على وجهه علامات اليأس. "الأمر ليس بهذه البساطة يا هان. هناك قوى أكبر منا تعمل في الخفاء. هذه ليست مجرد أزمة اقتصادية، إنها حرب اقتصادية."
لم تفهم هان وقتها مدى صدق كلام الوزير. استمرت في نضالها، تدافع عن كل تفصيل، محاولة تخفيف وطأة الشروط المجحفة. لكن الرياح كانت تجري بما لا تشتهي السفن. الرفض الصارم من جانبها كان يعيق التوصل إلى "الاتفاقية المذلة" التي كانت القوى الخفية تسعى إليها.
بعد أيام قليلة، وبينما كانت هان مي يونغ عائدة إلى منزلها في ليلة عاصفة، تعرضت لحادث سيارة مروع. كانت التقارير الرسمية تتحدث عن "حادث عرضي"، لكن الألسنة لم تتوقف عن الهمس. كيف يمكن لمديرة البنك المركزي التي تقف شوكة في حلق المفاوضات أن تموت في حادث غامض؟
انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وأصابت الأمة بصدمة عميقة. توقفت المفاوضات لفترة وجيزة، ثم استؤنفت بعد وقت قصير. مع غياب صوت هان، مرت الاتفاقية المذلة دون أي مقاومة تذكر. تم توقيعها، وبدأت كوريا الجنوبية فصلاً جديدًا من تاريخها، فصلًا محفوفًا بالخسائر والألم.
لم تكن وفاة هان مي يونغ مجرد حادث. لقد كانت تضحية، دفعت ثمنها أغلى ما تملك من أجل وطنها. لكن قصتها لم تمت معها. لقد ظلت تهمس في آذان الكوريين، تذكرهم دائمًا بأن رأس المال قد يكون قذرًا، وأن الثمن الحقيقي للسيادة أغلى من أي مبلغ يمكن أن يُعرض. وظل الكثيرون يتساءلون: هل كان حادثًا، أم كان اغتيالًا سياسيًا لإزالة عقبة في طريق "رأس المال القذر"؟ السؤال بقي معلقًا، شاهدًا على جروح لم تلتئم بالكامل في ذاكرة الأمة الكورية.
بقلم المفكر و القاص العربي
الشاعر والناقد الاردني
د محمد سليط
تعليقات
إرسال تعليق