ياسمينة دمشق
محمد سليط
عادت ليلى إلى دمشق، لا كزائرة عابرة، بل كروح تبحث عن شظايا ذاتها المبعثرة في تراب الوطن. كانت شوارع المدينة القديمة، ببيوتها العتيقة وأزقتها المتعرجة، تحتضنها كحضن أم لم ترها منذ سنوات. لكن الاحتضان كان مشوباً بمرارة الفقد؛ فدمشق لم تعد هي نفسها، ولا ليلى أيضاً.
وقفت أمام باب بيتها العتيق في حي القيمرية، بيتاً ورثت كل زاوية فيه حكايات الأجداد، لكن الجدران كانت متصدعة، وزجاج النوافذ مفقود في بعضها، وصدأ السنين، لا الغياب وحده، قد ترك بصماته القاسية. وحده عبير الياسمين، المنبعث من الفناء الداخلي، كان لا يزال شاهقاً، متسللاً من فوق السور العالي، يغازل أنفها كنسيم من زمن فات، زمن النقاء والبراءة. كانت تلك هي شجرة الياسمين، "ياسمينة عمر"، كما كان أخوها الصغير يدعوها.
فتحت ليلى الباب، ودخلت إلى الفناء المهجور. كان الياسمين يزهر بغزارة غير متوقعة، أبيض ناصع وسط الأتربة والفوضى التي خلفتها سنوات الفقد والغياب. انحنت ليلى، تلامس بتلاتها الرقيقة، وكأنها تلامس روحاً عزيزة غابت عنها. تذكرت عمر، أخاها الذي كان يصغرها بعشر سنوات، والذي لم يعد أبداً. كانت ابتسامته تشبه بياض الياسمين، وصوته كان كخرير ماء النهر العذب وهو يطلب منها أن تقص له حكاية تحت ظلال الياسمينة. في ذلك اليوم المشؤوم، قبل أن يبتلع القصف أحلامهم ومستقبلهم، كان عمر يقطف أزهار الياسمين ليصنع منها عقداً لأمه. لم يعد عمر، ولم تعد أمها، وبقيت هي والياسمينة الشاهدة الصامتة على كل شيء.
بدأت ليلى ترمم المنزل، قطعة قطعة، كمن يجمع أشلاء روحه المتناثرة. كانت كل ضربة مطرقة، وكل لمسة فرشاة، تحمل معها ذاكرة مؤلمة وجميلة في آنٍ واحد. في أحد الأيام، وبينما كانت تنظف خزانة قديمة في غرفة عمر، عثرت على علبة صغيرة من الصفيح. فتحتها بيدين مرتعشتين لتجد داخلها زهرة ياسمين جافة، احتفظت بلونها الأبيض المصفر ورائحتها الخفيفة التي كادت أن تتبخر، وإلى جانبها صورة قديمة لعمر وهو يضحك تحت الياسمينة، يرتدي طوقاً من أزهارها. انهمرت دموع ليلى، دموع لم تبكها منذ زمن طويل، دموع اختلطت بعبق الياسمين ومرارة الفقد.
زارتها أم يوسف، الجارة العجوز التي لم تترك دمشق رغم كل شيء. "الياسمين لا يموت يا ليلى، حتى لو ذبلت أوراقه يعود ويزهر، هو مثل روح دمشق. كلما ظننت أنها ماتت، تعود لتنبض من جديد، وتزهر وتغمر الكون بعبقها." كانت كلمات أم يوسف كمرهم على جرح ليلى الغائر، تبعث فيها بصيص أمل خافت.
لكن أيام الشتاء كانت قاسية، والوحدة كفيلة بقتل أي بصيص أمل. شعرت ليلى بأنها لا تستطيع الاستمرار، وأن عبء الماضي أثقل من أن تحمله وحدها. كانت تفكر في البيع والمغادرة، والبحث عن حياة جديدة في مكان لا يحمل كل هذا الأذى والذكريات. جلست في الفناء البارد، تحدق في الياسمينة التي بدا أنها تذبل هي الأخرى، كأنها تشاركها يأسها. "لا أستطيع يا عمر، لا أستطيع أن أحمل كل هذا." همست بصوت متحشرج، تكاد الكلمات لا تخرج.
في تلك اللحظة، وفجأة، وكأن الياسمينة سمعت نداءها اليائس، ارتجفت أغصانها قليلاً مع نسيم بارد. ثم، ومن بين الأوراق المتعبة، لمعت براعم جديدة، صغيرة وخضراء، تتفتح ببطء شديد لتكشف عن بياض ناصع لم يُشهد له مثيل. لم تكن مجرد براعم قليلة، بل كانت عشرات البراعم، كأنها ردّ الياسمينة عليها، إشارة حياة وسط الدمار. وفي نفس اللحظة، مرّت مجموعة من أطفال الحي، يلهون ويضحكون، توقفوا أمام الباب المفتوح. كانت فتاة صغيرة، بعينيها الواسعتين البريئتين، تشير بإصبعها نحو الياسمينة المزهِرة. "انظري يا أمي! ياسمين دمشق! كم هو جميل!" صاحت الفتاة الصغيرة، وكأنها تحمل في صوتها براءة كل أحلام المدينة غير المكتملة.
تجلت في عيني ليلى صورة عمر وهو يقطف الياسمين، ثم تلاشت لتحل محلها صورة الفتاة الصغيرة وهي تندهش من جمال الأزهار. أدركت ليلى أن الياسمين لا يزهر للأموات وحسب، بل يزهر للأحياء، للأطفال الذين يولدون في دمشق الجديدة، للأمل الذي يرفض أن يموت. هذه الشجرة كانت أكثر من مجرد ذكرى مؤلمة؛ كانت رمزاً للحياة المستمرة، للأحلام الصامتة، لجمال دمشق الذي لا يقهر مهما عصفت بها الرياح.
لم تعد ليلى تفكر في المغادرة. بدلاً من ذلك، قررت أن تفتح فناء منزلها للجميع، وأن تصنع من ياسمينتها رمزاً للحب والحياة. كل صباح، كانت تقطف بعض الأزهار وتضعها في مزهرية على النافذة المشرقة، أو تهديها للجيران والأطفال المارين. أصبحت حكايات الياسمينة مصدر إلهام للمارة، وأصبحت ليلى، التي لم تكن سوى روح مبعثرة في الماضي، هي نفسها "ياسمينة دمشق" جديدة، تزهر في قلب المدينة الجريحة، وتملأ الأجواء بعبق الأمل الذي لا ينتهي، مذكرة الجميع بأن دمشق ستظل تزهر، رغم كل شيء
تعليقات
إرسال تعليق